2012/01/09


النص الكامل للتقرير العام المقدّم للمؤتمر الثاني والعشرين للاتحاد العام التونسي للشغل

قدرنا النضال المستمر من أجل تحسين الأوضاع المادية والمعنوية للأجراء

* أول مؤتمر في تاريخ منظمتنا يكرّس خيار التداول على المسؤولية
نظرا لانتخاب الأخ عبد السلام جراد رئيسا للمؤتمر فقد تولّى الأخ عبيد البريكي تلاوة التقرير العام وقد جاء فيه:
على بركة الله نفتتح المؤتمر الثاني والعشرين للاتحاد العام التونسي للشغل، وهو مؤتمر وإن كان عاديا في صيغته من حيث حرصنا على انعقاده في نفس الموعد الذي يقتضيه نظامنا الداخلي فإنه استثنائي من حيث الخصوصيات الظرفية التي تصاحب انعقاده وما تمليه من واقع جديد يتعين على النقابيين تحديد آفاق التعامل معه، أما من حيث الإجراءات فإنه أول مؤتمر في تاريخ منظمتنا يكرّس خيار التداول على المسؤولية انسجاما مع مقتضيات الفصل العاشر من القانون الأساسي الذي ناديتم به في مؤتمر جربة وصادق عليه مؤتمر المنستير المنعقد أيام 14 و15 و16 ديسمبر 2006.
لقد ناديتم به لا من أجل تكريس هذه السنّة في اتحادكم فحسب، وإنما كان ذلك منكم وبصفة غير مباشرة رسالة إلى الرئيس المخلوع مفادها رفضكم لمبدأ الرئاسة مدى الحياة وما في ذلك من إخلال بمبدإ الجمهورية والتداول السلمي على السلطة عبر صندوق الاقتراع.
وقد شاءت الظروف أن ينعقد مؤتمركم سنة بعد انتصار ثورة شعبنا المجيدة: ثورة ألهمت بقية الشعوب فانبرت تدكّ حصون الاستبداد حيثما وُجد في وطننا العربي، وكنتم الحاضنين لها محليا وجهويا ووطنيا، فمن دور الاتحاد صدحت حناجركم بشعاراتها، ومنها انتظمت المسيرات وما رافقها من مظاهر الاحتجاج على مواجهة الجماهير المنتفضة سلميا بالإيقافات وحتى بالرصاص الحيّ فقضى كثير من شبابنا وهم في زهرة العمر نحبهم واستشهدوا من أجل مصلحة الوطن.
وفي هذا المحفل النقابي الأغر أدعوكم إلى الوقوف دقيقة صمت وتلاوة الفاتحة وفاء لهم وترحما على أرواحهم وتخليدا لذكراهم.
زخم نضالي كبير
إن ثورة شعبنا بما قدّمه من شهداء سقوا أرض تونس بدمائهم الزكية لم تكن وليدة الصدفة، بل كانت نتاجا نوعيا لجملة من التراكمات ومن زخم نضالي واجتماعي وسياسي وثقافي شهد مدّه الأعظم يوم 14 جانفي بمناسبة الإضراب العام في عدد من جهات البلاد تنفيذا لقرار الهيئة الإدارية الاستثنائية المنعقدة يوم 5 و11 جانفي، ومنذ أن تمت الإطاحة بهرم السلطة طالبنا بسنّ العفو التشريعي العام وحلّ التجمع الدستوري الديمقراطي وحلّ البوليس السياسي ومراجعة القانون الانتخابي وقانون الصحافة وقانون الجمعيات وإحداث لجان الإصلاح السياسي ولجنة تقصي الحقائق حول الرشوة والفساد، ولجنة تقصي الحقائق حول الاغتيالات على أن يكون المجتمع المدني واتحادكم ممثلا فيها.
وتفاعلا مع شرائح من الرأي العام الوطني نُظّم اعتصام القصبة احتجاجا على تلكّؤ الحكومة الأولى بعد الثورة في تطبيق الإصلاحات وتمسّكها باستمرار رموز النظام البائد في تسيير شؤون البلاد وخاصة بعد القمع العنيف للمعتصمين ولقد تمّ جمع مكونات المجتمع المدني والأحزاب السياسية بمبادرة من اتحادكم بمعيّة عمادة المحامين والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والإعلان عن تكوين مجلس لحماية الثورة كانت ثمرته لاحقا هيئة تحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي، فكانت بداية المسار للتأسيس لانتخابات المجلس الوطني التأسيسي، هذا المسار الذي صادقت عليه الحكومة الثالثة بعد الثورة وشهد يوم 23 أكتوبر تجسيده من خلال إنجاح الانتخابات التي أكّدت قدرة شعبنا على صنع الحدث بما يعكس حرصه بكل فئاته على إنجاح مسار ثورته، وإننا لم ندّخر جهدا من أجل توفير شروط نجاح المحطة الانتخابية من خلال بياننا الصادر عن المكتب التنفيذي بداية أكتوبر 2011 والداعي إلى تجنّب الإضرابات والإعتصامات، وفي السياق ذاته كان البيان الصادر عن الاتحاد العام التونسي للشغل والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وعمادة المحامين.
وإننا لنتوجّه بالمناسبة، إلى الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي بالتحية لما تمخض عنها من قرارات مهّدت لما تعيشه بلادنا اليوم من حوار مؤسساتي سينعكس حتما بصفة إيجابية – مستقبلا- على مجمل المؤسسات الأخرى التي ستضطلع بالإنجازات التي ينتظرها شعبنا بفارغ الصبر، وإنه لا يفوتني أن أنوّه بالجهد الجبّار الذي بذلته الهيئة العليا المستقلة للانتخابات بصفة مكّنت البلاد من طي مرحلة صعبة وعلى قدر كبير من المخاطرة، ولقد ساهمت الحكومة المؤقتة في تيسير عملها بما وفّرته من إمكانيات مادية كانت ضرورية لإنجاح المسار الانتخابي، تلك الحكومة التي اكتسبت مشروعيتها الوظيفية من انفتاحها على مكونات المجتمع بما مكنها رغم الصعوبات من تحقيق بعض متطلبات المرحلة، وإنه لمن موقع المسؤولية الإقرار بما أنجز من تفاوض حول مراجعة القدرة الشرائية للأجراء وكثير من المفاوضات القطاعية التي نجمت عنها اتفاقات ستظل نتائجها علامة مضيئة على صعيد ما شهده الطّور الانتقالي من حوار اجتماعي كان له الأثر الإيجابي على بعض شرائح مجتمعنا، من ضمنها ما قطع من خطوات على درب تطويق ما شهده التشغيل من هشاشة في قطاع لا ينكر أحد دوره في حياة الشعوب: إنه قطاع البلديات، الأمر الذي قاد أيضا إلى رفع الضيم والاستغلال عن عمال المناولة في القطاع العام وقطاع الوظيفة العمومية، والذي ندعو إلى تطبيق اتفاق الإدماج لعمّاله في بعض ميادين النشاط التي تخلّفت إلى حد هذه الساعة عن الإنجاز وإلى تعميمه في أقرب الآجال وأسرعها على عمال المناولة في القطاع الخاص.
وتجدر الإشارة إلى أن ما تحقّق من مكاسب مع الثورة لا يجب أن يحجب عنّا ما خاضته منظمتكم من نضالات من خلال الإضرابات الجهوية والقطاعية من أجل تحسين الأوضاع المادية والمعنوية لكافة الأجراء الأمر الذي أدّى خلال المفاوضات الاجتماعية ورغم الصعوبات المتعددة إلى زيادات كمية في الأجور وإلى مراجعة القوانين الأساسية وقانون النقابات فضلا عن الدفاع عن المؤسسات العمومية إزاء كل محاولات تخصيصها والتفويت فيها باعتبار ما لهذا القطاع من دور في التشغيل وفي التأسيس لتنمية مستدامة وإيقاف تنفيذ مشروع إصلاح نظام التقاعد والحيطة الاجتماعية نظرا لانعكاساته السلبية على القدرة الشرائية للأجراء، وهي الأهداف التي لم نكن لندركها في القطاعين العام والخاص والوظيفة العمومية ما لم تتوفّر لدى النقابيات والنقابيين القدرة على خوض النضالات المؤطرة سواء في شكل إضرابات شملت أغلب القطاعات أو الاعتصامات في المؤسسات الخاصة التي أغلقت أبوابها أمام العجز عن الصمود أمام المنافسة الوحشية الناجمة عن اقتصاد السوق وما تأتّى عنه من ضرب لمكاسب الشغالين وقضاء على مواطن عملهم.
إنجازات كثيرة كانت ثمرة مراكمات من النضال المؤطّر والمنظّم ميّزت مسيرة الاتحاد ويسّرت دوره الفعّال في ثورة الحرية والكرامة، ولقد تزامنت تلك الإنجازات بإصلاحات مالية هامة من نتائجها تحقيق حلم طالما راود الشغالين وزعماء الحركة النقابية: بناء دار الاتحاد العام التونسي للشغل وإتمام تشييد مقرات كل الاتحادات الجهوية التي أضحت 100% منها ملكا للمنظمة بينما لم تكن لتتجاوز 30% سنة 1985.
ظرفية تاريخية لافتة
لقد كنت أسلفت في مدخل هذا التقرير الإشارة إلى الظرفية التاريخية التي يلتئم فيها مؤتمركم، إنها ظرفية طبعتها ثورة شعبنا المجيدة بسمة الحرية، حرية التعبير والتنظم السياسي والاجتماعي، فكان التعدّد الحزبي والتعدّد الجمعياتي وأيضا بعض مظاهر التعدد النقابي، وهو التعدد الذي وإن كنا نعتقده مشوها باعتبار ما يحيط به من شبهات يدعو مؤتمركم الحالي إلى تناول هذه المسألة في علاقة بما تضمّنته معايير العمل الدولية وتوصياتها ولكن في إطار الحرص على وحدة الشغالين باعتبارها صمام الأمان إزاء كل محاولات اختراق المنظمة وشقّ صفوفها بالاستناد إلى ما عاشته من تجارب سابقة، فكانت على الدوام تلك القلعة المحصّنة التي أفشلت كل محاولات أخذها من الخارج.
لقد صمد اتحادكم أمام كل الأزمات التي عاشها، وكان كلما سعى البعض إلى تهميش دوره أو ضرب قياداته من أجل تمرير مشاريع اقتصادية عبر التقليص من المكتسبات الاجتماعية التي حقّقتها الطبقة العاملة بالنضال والتضحيات، إلا وازداد قوة وصلابة وعزما على مواصلة الدفاع عن الشغالين مرجعه في ذلك الثوابت والقيم والمبادئ التي انبنت عليها المنظمة.
ولعلّ المتأمّل في التاريخ، يلمس بوضوح أن الحركة النقابية تأسست في العشرينات، أي مع تأسس الحزب القديم وعايشت الحزب الاشتراكي ثم التجمع الدستوري الديمقراطي، ولكن أين هي تلك الأحزاب؟ لقد اندثرت جميعها وظل الاتحاد العام التونسي للشغل صامدا شامخا واقفا في وجه كل محاولات الاحتواء والتدجين والإرباك لم تهزّه العواصف ولم تستهو قياداته المناصب ولم تربكه التشويهات مهما تعدّدت ومهما كانت مصادرها.
إن صمود الاتحاد العام التونسي للشغل راجع بالأساس إلى طبيعة العمل النقابي وإلى الخيارات التي قام عليها، والتي كانت في العموم المنارة التي تهدي النقابيين إذا ضلّوا السبيل: التلازم في النضال بين البعدين الوطني والاجتماعي، استقلالية الموقف، ديمقراطية القرار، حرية النشاط، فالمنظمة رفضت أن تكون مطلبية حرفية مهنية ضيقة واعتبر روّادها بقيادة الزعيم الوطني الشهيد فرحات حشاد أن رفاه العمال لن يتسنى - إلا بالتحرر الوطني وأنّ الانعتاق الاجتماعي لن يتحقق إلا بالقضاء على الاستعمار الفرنسي، فاتحادنا على حدّ تعبيره لا يناضل من أجل بنطلون أو رسيون خبز بل من أجل القضاء على الهيمنة والتسلط والاستعمار وهو الخيار الذي جعل الاتحاد العام التونسي للشغل طيلة مسيرته النضالية مؤثّرا في المشهدين السياسي والاقتصادي فضلا عن دوره الاجتماعي، ولقد آمن مناضلوه بأن الشغالين لن يدركوا أهدافهم ولن تتحقق طموحاتهم إلا في ظل خيارات اقتصادية وطنية تضمن السيادة وتراعي التوازنات بأنواعها، واقتنعوا في الوقت ذاته بأن التوازنات الاقتصادية والاجتماعية رهينة ضمان مناخ قوامه الحريات والعدالة وحقوق الإنسان، الحق في العمل اللائق أساسها، إنه الخيار الذي جعل الاتحاد حيّا ديناميكيا متجددا ومؤثرا في المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي ولم يكن ليدرك ذلك لو لم يُبن قانونه على الديمقراطية من حيث اعتماد مبدإ الانتخاب الحرّ في اختيار قياداته الأساسية والمحلية والجهوية والقطاعية والمركزية واعتماد هياكل شكلت سلطة للقرار وأخرى للتنفيذ وانتهاج أسلوب المحاسبة الدائمة والمراقبة المستمرة عبر لجان النظام الداخلي ولجان المراقبة المالية التي آن الأوان لتطوير هيكلها وللارتقاء بمهامها حتى تعمل باستقلالية فعلية تامة عن القيادات النقابية مركزيا وقطاعيا وجهويا من أجل تفعيل دورها وضمان مزيد من النجاعة والجدوى.
إن اتحادكم لم يكن ليقدر على الفعل في الواقع والتأثير فيه ما لم يتوفّر عنصر آخر محدد في تصليب عوده وتثبيت حنكة مناضليه في الدفاع عن المكاسب إزاء كل محاولات الارتداد عليها من هنا وهناك ما لم يكن حرّا في مواقفه رافضا لكل الإملاءات وكل الضغوط التي ما انفكت تسلّط عليه من أجل تدجينه أو إجباره على التخلي عن دوره، فالإيمان بالتلازم بين الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتمسك بالنشاط النقابي الحر وبالديمقراطية خيارات في اتخاذ المواقف والقرارات عوامل أسهمت بوضوح في بقاء منظمة الشغالين حصنا لكافة العمال ولكل القوى السياسية التقدمية التي آمنت بالعلاقات القائمة على تصارع الأفكار ووحدة الممارسة وعلى حق الأقلية في حرية الرأي والتعبير وفي مشروعية الدفاع عن مواقفها داخل المنظمة.
إن الاتحاد العام التونسي للشغل ظلّ، وسيظلّ رغم كل محاولات تفكيكه مدرسة يتربّى فيها العمال على النضال من أجل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والحق في التعبير الحرّ وفي التنظّم بأنواعه وفي العدالة والمساواة، فهي المنظمة التي ظلت واقفة في كل المناسبات، ولعلّه من المفيد الإقرار بأن استمرارية الفعل النقابي راجع إلى قدرة النقابيين على تحديد الواجهة الرئيسية للنضال حيث كانت مرحلة التأسيس مع محمد علي الحامي تحت شعار التأسيس المستقل وتميّزت مرحلة حشاد بالنضال الوطني والاجتماعي وكانت مرحلة ما بعد الاستعمار المباشر بلورة برنامج اقتصادي واجتماعي كان محددا في بناء الدولة الحديثة وطبعت الستينات بقيادة أحمد التليلي بإنشاء مؤسسات اقتصادية للمنظمة وبمعركة الديمقراطية السياسية وشهدت السبعينات والنصف الأول من الثمانينات مع الحبيب عاشور معارك الاستقلالية وشكلت التسعينات عودة العمل النقابي وغلب على هذه المرحلة من تاريخ المنظمة منطق المساهمة ومقولة إعادة التأسيس التي كانت الغاية منها التفرّد بالرأي وجرّ المنظمة إلى ركاب السلطة وضرب كل نفس معارض يروم الحفاظ على الدور النضالي للاتحاد العام التونسي للشغل أما بداية الألفية فقد كانت تحت شعار « التصحيح « ضمن تمشّ خضناه معا حيث حاولنا إدخال مقترحات جوهرية على النظام الداخلي بما مكّن من تقليص دور الأمين العام ومهامه ومن تقنين التداول على المسؤولية وقطعنا نهائيا مع ارتهان مؤتمرات الاتحاد العام التونسي للشغل للرئيس المخلوع وأصبحنا نعقدها دون إشرافه أو حضور من يمثله وأعدنا الاعتبار لصندوق الاقتراع من أجل انتخابات حرة نزيهة وشفافة تعكس إرادة العمال وخياراتهم.
إنها المراكمات التي نقف معها اليوم – بعد أن نجح اتحادكم في تأطير الثورة والإحاطة بها وفي إنجاحها – على عتبة مرحلة جديدة تكتسي أهمية كبرى في تاريخ بلادنا ويتحدد في ضوئها الدور الجديد لمنظمتكم: من أجل بناء ديمقراطية حقيقية جوهرها حرية الشعب في تحديد مصيره والقطع مع المنظومة الدكتاتورية بأشكالها، إنها مرحلة التأسيس الديمقراطي والبناء الاجتماعي.
هي المرحلة التي يجب أن يتعزز فيها دور اتحادنا بحكم ما راكمه عبر التاريخ من مكاسب عدة وبحكم ما أثبته من اقتدار على إدارة الأزمات والفعل فيها بما يضمن الدفاع عن كافة الأجراء وعموم الشعب. فرغم الانطلاق التدريجي في بناء الديمقراطية ورغم البدء في إرساء اللّبنات الأولى لتونس الجديدة عبر انتخاب مجلس وطني تأسيسي يتمثل دوره الرئيسي في صياغة دستور شعبي ديمقراطي، فإن البلاد تمرّ بمرحلة صعبة ومعقّدة تميّزت بمظاهر انفلات متعددة وبصعوبات اقتصادية عنيفة حيث لم تتجاوز نسبة النمو « الصفر « حتى اليوم، وبتوترات اجتماعية من مظاهرها بعض الاعتصامات المتكررة وغير المؤطرة التي عطلت مصالح المواطنين والتي ألحقت أضرارا جسيمة بالمؤسسات العمومية المتنفّس الوحيد للتشغيل والتنمية في المناطق الداخلية الأمر الذي حاد بطبيعة انشغالات عموم الشعب وعمّق التناقضات بين فئاته التي تلتقي في المعاناة بأنواعها، ولعل ما يزيد الأزمة التي تمر بها بلادنا احتدادا ارتفاع نسب البطالة وإدراكها أرقاما مفزعة حيث بلغ عدد المعطلين عن العمل ما يقارب 840,000 أي بنسبة 18% منهم ما يزيد عن 240.000 من خريجي الجامعة إضافة إلى ما شهدته أسعار كافة المواد وخاصة الأساسية منها ارتفاعا لم تشهد له البلاد مثيلا...
ذاك هو الواقع الذي سيتحرّك فيه اتحادنا وتلك هي صورة تونس اليوم، والتي تستدعي من الجميع على اختلاف آرائهم وعلى تنوع انتماءاتهم العمل المشترك على الخروج بها من هذا الواقع الأليم الذي يمسّ شرائح المجتمع.
يجب أن تمتدّ كل الأيادي وأن توظّف كل الطاقات على قاعدة الاحترام المتبادل وعلى أساس التسليم بأن القاسم المشترك: تونس، تونس التي تعزّ علينا جميعا، تونس المتأثرة بتراجع نسق الاستثمار لانتفاء الأمن، تونس التي فقدت أو تكاد قطاع السياحة، رغم ما له من تأثير على الاقتصاد، تونس التي تحتاج إلى برنامج إنقاذ يُثبت قدرة شعبنا على صيانة الثورة وعلى تحقيق أهدافها، وقدرته على التصدي لكل من يحاول التشكيك فيها والارتداد بها وبمسارها، ونحن من موقعنا كنقابيين، سواء من داخل الهياكل المسيرة أو من خارجها على استعداد دائم للمساهمة في مسيرة الإنقاذ بعزيمة لا تنثني ووطنية لا تهتزّ وطموح لا حدود له تقودنا في ذلك إرادة التنسيق مع سلط التسيير السياسي باعتماد الحوار الدائم والسعي المشترك إلى ضمان منوال تنمية عادلة تضمن التوازنات الجهوية والفئوية، تقنّن حقوق الإنسان وتقر حق التنظم وترسي الحريات العامة والفردية.
لقد هنّأنا شعبنا حين أقبل بكثافة على صندوق الاقتراع وانحنينا أمام إرادة الناخبين وتوجّهنا بالتحية إلى كل من حازوا على ثقة الشعب وأكدنا في الوقت نفسه على أن علاقتنا بالسلطة السياسية قائمة على مدى تفاعل القيادات مع طموحات شعبنا ومع أهداف ثورته، وعلى مدى استجابتهم لمطالب الشغالين في ظل الحفاظ على الثوابت المدنية التي حققها شعبنا طيلة مسيرة من النضال الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والمدني والثقافي.
إن حرصنا على الاضطلاع بمسؤوليتنا حسمناه عبر التاريخ ببلورة تصورات عملية لبناء تونس بما أعددناه من دراسات نظرية وميدانية شملت كافة أركان التنمية المستدامة، فلقد كنا قوة اقتراح وبناء حيث صُغنا برامج اقتصادية واجتماعية اعتمد أولها لبناء تونس الحديثة بالإضافة إلى البرنامج الذي صادق عليه المؤتمر 16 للاتحاد وشكل آخرها وثيقة عمل خلال مؤتمر جربة الاستثنائي نبّهنا فيه إلى الحيف الاجتماعي وإلى مخاطر تحميل العمال تبعات المنحى الليبرالي والإصلاح الهيكلي وأدنّا فيه القمع بألوانه، ودعمنا الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان في إطار الدفاع عن منظومة حقوقية أضحت حتمية بديلا عن سياسة ضرب الحريات العامة والفردية والتضييق على العمل النقابي من أجل تمرير مشاريع المؤسسات المالية الدولية وإملاءاتها، وعلى قاعدة القناعات ذاتها ندّدنا بالاعتداءات التي استهدفت الصحافيين وأكدنا على أن الإعلام الحرّ يظل من الركائز المحدّدة في إرساء الديمقراطية، ووقفنا إلى جانب جمعية القضاة حين شرّد النظام البائد أعضاءها واحتضنّا تظاهرات النساء الديمقراطيات حين منعتها السلطات من تنظيم نشاطاتها وواكبنا كل مؤتمراتها ومؤتمرات بعض الأحزاب السياسية المعارضة التي اتخذت لها مسافة من النظام البائد بل حين كانت على خلاف معه حول عدد من القضايا السياسية والاجتماعية والمدنية.
تلك هي المبادئ وذاك هو التمشي وتلك هي القناعات التي ندعوكم اليوم وأنتم تستعدون للدخول بالاتحاد العام التونسي للشغل إلى طور جديد يستدعي الاستجابة لطبيعة المرحلة والتأقلم معها على قاعدة التمسك بالثوابت التي انبنت عليها المنظمة في إطار تمشّ يضمن قدرتكم على الدفاع عن تصوركم لتونس جديدة بمؤسسات جديدة وفاعلة تكون في حجم التحديات المطروحة وهي كثيرة.
فعلى المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي أنتم مسلحون، بالإضافة إلى ما راكمته المنظمة من دراسات شهد الجميع بثرائها، بمشروع دستور جديد أعدته هياكل المنظمة بمعية عدد من الخبراء والمختصين، وبأرضية عمل اقتصادية واجتماعية، على أنها تظل مشاريع تستأنسون بها وتطوّرونها في ضوء ما يشهده الواقع من تطور.
وتمسّكا منا بمقوّمات وقيم النظام الجمهوري الذي ساهم اتحادكم في وضعه صلب المجلس التأسيسي الأول سنة 1956، واستجابة لواجب المشاركة الفاعلة والفعلية لرسم ملامح النظام الذي سيحكم مجتمعنا على الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وللتأسيس لمستقبل بلادنا حرصنا على تقديم تصوّر لمشروع دستور البلاد الجديد تجاوبا مع إرادة شعبنا الرافض لكل أشكال الاستبداد والقهر والفساد والتواق إلى تحقيق الأهداف التي من أجلها قامت الثورة وتكريس قيمها، دستور يؤسّس لنظام ديمقراطي يقوم على معادلة المساواة والعدالة الاجتماعية والحرية والتعددية السياسية ويبني جمهورية ديمقراطية اجتماعية، بحيث يكون البعد الاجتماعي ومصالح الطبقة العاملة حاضرة فيه بكل قوة حتى نضمن جمهورية تكفل إلى جانب الحريات السياسية العدالة الاجتماعية ومنها بالخصوص النقابية وحمايتها بشكل ناجع، وقد ضمّناه إلى جانب المبادئ العامة التي ذكرت تصوّرنا لمقوّمات الدولة من حيث الهوية والتنظيم اللاّمركزي والجوانب التشريعية المتعلقة بالجنسية والحالة الشخصية والالتزامات، والتنظيم الإداري للدولة وخاصة ما تعلق منه بالعلاقة بين السلطات الثلاثة ووظائف كل منها وخصّصنا بابا للامركزية والديمقراطية المحلية وآخر للدستور حتى لا تمس مشاريع تنقيحه بالنظام الجمهوري للدولة أو بالحقوق والحريات الأساسية المضمّنة فيه.
وإننا إذ نشكر السادة والسيادات خبراء الاتحاد الذين تولوا إعداده بمعية هياكل المنظمة نأمل أن يكون موضوع تداول وإثراء من قبل مناضلينا وأن يستأنس به مناضلو ومناضلات الاتحاد وكافة المؤمنين بمبادئ وقيم منظمتنا بمناسبة مداولات إعداد الدستور الجديد.
وهكذا تكونون مسلحين للمرحلة المقبلة بالإضافة إلى ما راكمته المنظمة من دراسات شهد الجميع بثرائها وبأرضية عمل اقتصادية واجتماعية وبمشروع دستور تعملون من خارج المجلس التأسيسي ومع من يشاطرونا الرأي داخله لتكريس ما تضمّنه من أفكار.
وإن اهتمامنا بالمبادئ والأساسيات لا يحجب عنا ضرورة النضال الميداني من أجل النهوض بأوضاع البلاد فقد ظلت الأنشطة الصناعية في جزء هام منها استخراجية (نفط- مناجم) وتحويلية (الصناعات الغذائية والصناعات الكيميائية) بينما تتموضع باقي الأنشطة في أسفل سلّم العملية الإنتاجية (الصناعات الميكانيكية والصناعات الكهربائية) التي تقتصر على التركيب والتجميع في إطار المناولة لحساب الشركات الفوق قومية وهو ما يضفي على هذه النشاطات صبغة عرضية حيث أنها لا تساهم في تلبية احتياجات السوق الداخلية ولا في التراكم الداخلي.
وعليه فمن مقتضيات بناء اقتصاد قوي تنويع النسيج الصناعي بـ:
1. توسيعه نحو الأنشطة الحيويّة التي تتميّز بكثافة مبادلاتها الصناعية البينيّة، حيث أنّ إرساءها بوصفها أنشطة دافعة تمهّد لإرساء الأنشطة المرتبطة بها وتطويرها.
2. الارتقاء بالأنشطة الصناعية وتوسيعها لتشمل كافة حلقات عملية الإنتاج مع الرفع من نسبة تأطير اليد العاملة وهو ما يمكّن من اكتساب قدرة تنافسية أساسها الجودة والمحتوى التكنولوجي للمنتوجات وليس الاستعمال المكثّف لليد العاملة غير المؤهلة ومتدنية الأجور.
3. التحكم في النزعة التصديرية وتوجيه الإنتاج للطلب الداخلي، وفي هذا السياق فإن الترفيع الدوري في الأجور وبصورة عامة تحسين القدرة الشرائية للكادحين يعدّ شرطا جوهريّا لتنمية الطلب الداخلي وإنعاش الدورة الاقتصادية.
4. تطوير النسيج الصناعي في عمقه وذلك بالارتقاء به من إنتاج مواد الاستهلاك إلى إنتاج وسائل الإنتاج.
ولتحقيق هذه الأهداف يتعيّن إرساء حوافز انتقائية تشجع رأس المال الوطني على الاستثمار والمراكمة في الصناعات الحيوية الموجّهة لتلبية الطلب الداخلي، مع ربط هذه الحوافز بتحقيق هذه الغايات، وفتح الأسواق المغاربية والعربية أمامه، والإسراع بربط التعليم والتكوين والبحث العلمي بدورة الإنتاج حتى تصبح هذه المقومات منتجة للمعرفة وللتكنولوجيا ولتطبيقاتها ميدانيا.
أما القطاع السياحي فرغم ارتباطه بالأسواق الخارجية مما يجعله عرضة لهزّات مزلزلة، فإنه يعتبر مساهما في تحقيق فائض القيمة باعتباره يمثّل سوقا لقطاعات أخرى فضلا عن كونه موردا للعملة الصعبة، وحيث أن السياسات السابقة انحرفت به عن تحقيق الغايات المرجوّة منه اقتصاديا عبر الاقتصار غالبا على السياحة الشاطئية والتخفيض المتواصل لقيمة الدينار وكسر أسعار الإقامة، والتقشّف في الكلفة والضغط على الأجور والاعتماد على يد عاملة غير مؤهّلة وغير قارة، فإن تصحيح السياسات في هذا المجال تقتضي:
1. تكثيف التعليم والتكوين في المجال السياحي لتزويد القطاع بموارد بشرية مؤهّلة وذات كفاءة.
2. اعتماد السياحة القائمة على النوع وإحداث القيمة المضافة.
3. تشجيع وتنشيط السياحة الداخلية والمغاربية والعربية عموما.
4. تنويع المنتوج السياحي ومدّه إلى الجهات الداخلية ذات الخصائص التاريخية والبيئية المتميزة.
ورغم أن اقتصادنا في كافة حقبات التاريخ ومنذ عهد الرومان قام بالأساس على الفلاحة. فقد أدّى التمشّي الفلاحي في العهد السابق إلى إفراغ مفهوم الأمن الغذائي من كل محتوى اقتصادي واجتماعي ليحوّله إلى مجرّد موازنة تجارية بين صادرات وواردات المواد الغذائية وهو ما أدّى إلى التخلي عن الزراعات الكبرى الضامنة للأمن الغذائي لصالح الزراعات الموجهة للتصدير ممّا أدّى إلى تزايد الواردات الغذائية وتفاقم العجز الغذائي، وقد اعتمدت هذه الصادرات أساسا على منتوجات الزراعات السقوية وهو ما أصبح يتسبب في مزيد إنهاك الأرض واستنزاف الموارد المائية.
وإنّ تدارك هذا الوضع يقتضي في نظرنا:
- إعادة النظر في الوضعية العقارية الفلاحية المتّسمة بتشتّت الملكية حيث تمثل المستغلات الصغيرة 75% من مجمل الأراضي الفلاحية في حين أن المستغلات الكبيرة ذات المساحة التي تزيد عن المائة هكتار لا تمثل سوى 1%، مما يستوجب التشجيع على بعث تعاونيات تشاركية بين الفلاحين الصغار والمتوسطين بهدف تكوين مستغلات تسمح مساحاتها باستعمال التقنيات الحديثة قصد تطوير المنتوج الفلاحي وتحسين مدخول الفلاحين.
- استرجاع الدولة لكل الأراضي التي تم التفويت فيها وكذا الشأن بالنسبة لشركات إحياء وتحويل الأراضي الفلاحية العمومية إلى تعاونيات فلاحية يساهم العمال الفلاحيون والإطارات بفاعلية في إدارتها.
- مدّ التعاونيات بكوادر مختصة تضطلع بمهمة التأطير المباشر للمنتجين ومساعدتهم على استيعاب وحسن تطبيق التقنيات الفلاحية.
- دعم الزراعات الكبرى وتربية الماشية باعتبارها أنشطة ضامنة للأمن الغذائي.
- حماية المنتوجات الفلاحية ضدّ كل منافسة أجنبية ودعم البحث العلمي الفلاحي وربطه بالخصوصيات الاجتماعية والطبيعية للفلاحة التونسية.
- الكفّ عن التفويت في الأراضي الدولية والاقتصار على الكراء المشروط بمضاعفة وتحسين الإنتاج والحفاظ على مواطن الشغل بربط مساحة الأرض المكرية بعدد قار من العمال وإشراك المجالس المحلية عند التسويغ وفي تقييم المردود ومتابعة مدى الالتزام بتنفيذ الشروط آنفة الذكر.
- تطوير نظام التغطية الاجتماعية في القطاع الفلاحي وتوحيده في اتجاه الارتقاء بالأوضاع الصحية والاجتماعية للعاملين فيه.
وحيث أنه لا نهوض بالأنشطة الاقتصادية الحيوية دون سياسات أساسها التوزيع العادل للثورة وللتنمية الجهوية المتوازنة بإحداث البنى التحتية وإدماج اقتصادي فعّال للجهات المهمّشة والمقصيّة في الدورة الاقتصادية الوطنية بما ينجرّ عنه تحرير القوى المنتجة في الريف وبالتالي تحرير الجماهير الشعبية وحمايتها من البطالة والتهميش.
وعموما يتعين رسم خارطة تنموية جديدة طبقا لأولويات جديدة تعتمد التنسيق المحكم بين سلطة القرار المركزي والمجالس الجهوية والمحلية والقروية المنتخبة مباشرة من السكان وتمكين هذه الأخيرة من سلطات قرار واسعة وموازنات مالية مُجزئة.
إننا مدعوون في المرحلة القادمة إلى النضال من أجل العمل على جعل اقتصاد البلاد يخدم مصالح الكادحين من أبناء الشعب في ظل الحفاظ على مصالح أصحاب العمل والمستثمرين الذين يعملون على احترام المعايير الدولية والمواثيق العالمية لحقوق الإنسان، علينا أن نؤثر من أجل إعادة هيكلة الاقتصاد طبقا لأولويات جديدة هدفها الأساسي ضمان التراكم الداخلي وإنماء القطاعات المنتجة ذات القيمة المضافة العالية وذات الطاقة التشغيلية الأكبر مع ضرورة تنويع مجالات الاستثمار وتوسيعها في ظل القطع مع الاقتصاد الطفيلي.
كما أننا مدعوون إلى الانصراف نحو إنماء الإنتاج كما وكيفا وإلى العمل على الارتقاء بمستوى معيشة عموم الشعب وتخصيصا الأجراء من خلال النهوض بقدرتهم الشرائية وأنسنة ظروف عملهم وضمان أسس العمل اللائق وإعادة توزيع الثروة بين الجهات بشكل، يقلّص في مرحلة أولى، الفوارق المجحفة بين الجهات ويقرب من منوال تنمية يؤهل الجهات المفقرة، المهمّشة والمحرومة من الإندماج التدريجي في الدورة الاقتصادية، إنها الإصلاحات التي أضحت حتمية وعاجلة من أجل الخروج الفوري بالبلاد من واقع التأزم ولكنها التي لن تتحقق ما لم تكن مقترنة بضمان شرطين أساسيين أولهما المراجعة الجذرية لمنظومة التربية والتعليم بعيدا عن سياسة الارتجال التي طالما ميّزت التعامل مع هذا القطاع الحساس الذي يظل العمود الفقري لكل مكونات التنمية المستدامة وأما الثاني فيتجسّم في إعادة النظر في قوانين العمل من أجل مجلة شغل تضمن العمل القار وتقطع مع الأشكال اللانمطية للتشغيل
ومن أجل قوانين تضمن الإقرار الصريح بحرية النشاط النقابي في كافة القطاعات وجعل الحوار بمفهومه الواسع خيارا يشمل كل مجالات الحياة وكافة ميادينها السياسية والمدنية الأمر الذي يستدعي التصديق على الاتفاقيات 154 و144 و155.
تناقض جاد بين الخيارات
من الثابت أن إسقاط النظام البائد كان وليد تناقض حاد بين الخيارات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وطموحات شعبنا بكل فئاته أي بين طبقة متنفـذة أثْرت على حساب عرق العمال وبين البطالين والفقراء والكادحين، غير أن الراجع إلى السياسة المنتهجة من قبل الرئيس المخلوع وحكومته في علاقة بالقضايا العربية وتحديدا قضيتنا المركزية فلسطين يلاحظ عاملا آخر عمّق حقد شعبنا على النظام البائد حيث مافتئ بن علي يلعب دور الوسيط بين الامبريالية الأمريكية وعملائها من الحكومات العربية الرجعية والكيان الصهيوي في محاولة للجر نحو مسار التطبيع والاعتراف به واقعا مفروضا على الجميع والدفع ينحو إقامة علاقات اقتصادية تجارية مع هـذا الكيان الدخيل على امتنا العربية وسعى إلى تبادل الوفود معه والى الإقرار بالتمثيل الدبلوماسي، وعمد وفاء للولايات المتحدة الأمريكية إلى قمع كل التظاهرات والمسيرات المنددة بسياسة الاستيطان والداعمة لنضالات شعبنا في فلسطين مستهدفا المبادئ الوطنية والقومية التي انبنى عليها تاريخنا، ولقد عمل اتحادكم، رغم آلة القمع، وإرادة كبت حرية التعبير على التحرك الجماهيري في مواجهة الغزو الإسرائيلي بأنواعه، وعلى تنظيم المسيرات المستقلة الحاشدة تنديدا بغزو غزة ووقوفا ضد الحصار الجائر المضروب عليها ونظمنا حملات دعم لصمود شعبنا في فلسطين المحتلة تلك الحملات التي شهدت إقبالا جماهيريا منقطع النظير ووقفنا ضد محاولات التطبيع فعبّرت مختلف القطاعات في اتحادنا عن رفضها القطعي لزيارة الوفد الصهيوني لبلادنا بمناسبة التئام الندوة الدولية للمعلوماتية بتحركات متنوعة وصلت حدّ الإضراب العام في عدد من القطاعات.
إن من ثوابتنا التاريخية الوقوف المبدئي واللامشروط مع نضالات شعبنا في فلسطين نضالات أردناها موحدة بين كل الفصائل الفلسطينية من أجل خلق قوة صلبة مناضلة، بدعم من القوى التقدمية في الوطن العربي وفي العالم، تكتسب القدرة على الإحاطة بالكيان الصهيوني وعلى تحرير فلسطين وفي ضوء المبادئ ذاتها عبرنا عن وقوفنا مع كل المعارك التي خيضت ضد الكيان الصهيوني من أجل تحرير الأراضي العربية المغتصبة ونظمنا مسيرات مشهود لها دعما للمقاومة في جنوب لبنان وعلى الدرب ذاته نقف اليوم إجلالا لثورات الربيع العربي التي وددنا لو قامت في القطر الليبي الشقيق دون تدخل خارجي من قوات لا تتحرك إلا بفعل مصالحها في البلاد العربية.
ولا بدّ لنا اليوم في هذه المحطة التاريخية أن تتوجه بتحية إكبار إلى شعبنا في سوريا واليمن ومصر والبحرين راجين لهم النصر في نضالهم من أجل الإطاحة بالدكتاتورية وبناء عصر جديد، عصر التحرر والانعتاق، عصر السير التدريجي نحو الديمقراطية ونحو تحرير فلسطين وكل الأراضي العربية المحتلة.
دورات تدريبية موجهة
لقد تمكنا من خلال ما راكمناه من مكتسبات داخل بلادنا ومن خلال مسارنا النضالي الـذي بفعل ما توفّر من دراسات وما نظّم من دورات تدريبية موجّهة، من التأثير عربيا ودوليا، وتوصلنا من خلال إدراكنا لمواقع قيادية في الكنفدرالية النقابية الدولية- الكنفدرالية النقابية الدولية مكتب إفريقيا- والاتحاد الدولي لنقابات العمال العرب- منظمة الوحدة النقابية الإفريقية- المنتدى النقابي الديمقراطي العربي إلى كسب رهان الدعم والمساندة لقضايانا العربية في ظل ظروف عسيرة دوليا وفي ظل تقلّص دور الاتحاد الدولي لنقابات العمال العرب حيث أصبح بعد مؤتمر السودان غير قادر على مواكبة المستجدات في الوطن العربي بما يضمن قدرة الحركة النقابية العربية على تفعيل دورها في ظل الأوضاع الراهنة.
إن مهامّا كثيرة تنتظركم على المستوى الدولي حيث أنكم مدعوون إلى المساهمة في تفعيل دور الاتحاد النقابي لعمال المغرب العربي ولتصحيح المسار في الاتحاد الدولي لنقابات العمال العرب من أجل عمل نقابي ديمقراطي مستقل ومناضل يعاضد المجهودات الرامية الى تحقيق أهداف الثورات العربية ويساعد المناضلين في الطريق حتى انتصار نضالاتهم في مختلف الأقطار العربية التي تشهد ثورات على الأنظمة الاستبدادية.
مهام كثيرة وتحديات جمة تنتظر اتحادنا خلال الفترة القادمة سواء محليا أو عربيا أو دوليا: صعوبات اقتصادية وتعقيدات اجتماعية وتعددية نقابية مشبوهة وتغير في الخارطة النقابية المغاربية والعربية الأمر الـذي يدعونا إلى مراجعة جـذرية لهيكلة الاتحاد العام التونسي للشغل، عبر تفعيل مهام النقابات الأساسية التي تظل قطب الرحى في العمل النقابي الصادق والفعّال وعبر مزيد من العناية بالقطاع الخاص تشريعا وتأطيرا وتنظيما فضلا عن أن الأوان قد آن للتركيز الجاد على شريحتين، إذا أفلحنا في الإحاطة بهما نكون قد ساهمنا في تطوير عطائنا وفي توسيع دائرة الانتساب النقابي ونعني المرأة والشباب. فلقد آن الأوان أن نتصالح مع تراثنا النقابي النيّر عبر إدماج المرأة في سلطة القرار وخاصة منها الهياكل التنفيـذية المركزية حيث أنه من المفارقات الرهيبة أن تظل المرأة خارج القيادة، بينما كنا كنقابيين من خلال رائد الإصلاح الاجتماعي الطاهر الحداد العضو الفاعل في جامعة عموم العملة التونسيين سباقين إلى طرح تحرّر المرأة والى تمكينها من المساهمة في صياغة مشاريع التنمية بكل مكوناتها فضلا عن أن التمشي التدريجي لتشريكها في تسيير شؤون المنظمة يمكّننا من الانسجام ومواقفنا الداعية إلى الدفاع عن مجلة الأحوال الشخصية وتطويرها ومن سدّ ثغرة طالما أحرجتنا في علاقة بالمنظمات العالمية والدولية، وبنفس العزيمة وبالإصرار ذاته وجب الإحاطة بالشباب الـذي يعاني البطالة والتهميش والعمل الغير المنظم، هـذا الشباب الـذي اثبت للعالم كله قدرته على صنع الحدث وعلى مواجهة الظلم والحيف والتسلط بحثا عن حياة كريمة وعن عمل لائق وعن مجتمع تسوده الحريات العامة والفردية والحقوق الأساسية للإنسان حق التعبير الحر مكونا رئيسيا من مكوناتها.
قادرون على رفع التحديات
إن الطريق شاق لكنكم خبرتم من خلال ما راكمته منظمتكم من قدرة على تحدي الصعاب كيفية الحفاظ على اتحادكم وتجديد مناهج عمله وتحديثها في ظل الحفاظ على الثوابت والمبادئ التي تأسست عليها الحركة النقابية فعبر تمسّككم باستقلالية قراركم وبحرية نشاطكم وديمقراطية مواقفكم ورفضكم الخضوع للوصاية مهما كان مأتاها، بوحدتكم في ظل الاختلاف وبعزمكم على النضال ضد كل مظاهر الانحراف من أجل مصلحة العمال ومن أجل مصلحة عموم الشعب، ومن أجل مصلحة تونس، أنتم قادرون على رفع التحديات مهما تعقدت وعلى الحفاظ على منظمتكم صرحا ثابتا شامخا صامدا يواجه المظالم، يناضل من أجل تثبيت المكتسبات وتطويرها ويدافع عن قضايا أمتنا العربية الإسلامية وقضايا المفقرين والمجوّعين في كافة أنحاء العالم.
نحن مصرّون على التمسّك بالخطوات التي قطعتها المرأة في النضال وبهامش الحريات التي فرضتها بصمودها وصمود القوى التقدمية، لن نقبل بمقولة احترام التعهدات لأنها في أجزاء كبيرة منها تكريس للتبعية وضرب للسيادة ولن نقبل بمحاولات تحميل الأجراء وحدهم تبعات أزمة عامة لا مسؤولية لهم فيها ولن نرضى بتلك الحلول السهلة التي لا تكون نتيجة حوار وطني شامل حول أنظمة الحماية الاجتماعية والتشغيل والإصلاح الجبائي وإصلاح التشريعات ومراجعة أنظمة التربية والتعليم والتدريب، يضع الحلول التوافقية الآنية منها والاستراتيجية لإنماء تونس.
صراع ووحدة من أجل التجدّد والاستمرا
اسمحوا لي وأنا أختتم كلمتي في هذا المهرجان النقابي، وأمام مناضلات ومناضلين أثبتوا للعالم بأسره أنهم الأقدر على ضرب مواعيد مع التاريخ، ومن باب الوفاء والإقرار بالعرفان، أن أتوجّه بالشكر والتقدير لكل من ساعدني على أداء مهمّتي وزملائي في تسيير هذه المنظمة العتيدة التي نالني شرف قيادتها رغم بعض النقائص التي أنتم قادرون على تجاوزها وعلى سدّ ما يكون برز من ثغرات ناجمة عن تشعّب الأوضاع التي عشناها وعن تعقّدها.
فالشكر لزملائي أعضاء المكتب التنفيذي على ما ساد أعمالهم من وحدة وانسجام وتآخ والشكر لأعضاء الهيئة الإدارية الوطنية الذين على تعدّد آرائهم اتحدوا في الدفاع عن الأجراء والشغالين وعموم الشعب في إطار روح توافقية دعّمت دور الاتحاد وصلبت عوده والشكر لكافة النقابيات والنقابيين الذين على اختلاف آرائهم وانتماءاتهم وأحزابهم تعلموا كيف يجمّدون تناقضاتهم ويتّحدون في الدفاع عن الاتحاد العام التونسي للشغل حين يستهدف من أعداء الحركة النقابية وحين تتعرّض قياداته لحملات تشويه الغاية منها إرباك مناضلي المنظمة للحدّ من دورها في مواجهة الانزلاقات والانحراف.
ذاك هو اتحاد حشاد: صراع ووحدة وحدة وصراع من أجل التجدّد المستمر والتطوّر الدائم.
تحية كبرى أسوقها إلى جنود خفاء كانوا على الدوام في صدارة المضحّين من أجل تنفيذ برامج الاتحاد وسهروا الليالي من أجل إنجاح تظاهراته وعملوا دائما على التصدي لكل من يحاول المسّ منه ومن قياداته: إنهم موظفو وأعوان الاتحاد العام التونسي للشغل محليا وجهويا وقطاعيا ومركزيا.
شكرا لكم جميعا، وعهدا علي أن أظل واحدا منكم وفيا للمنظمة ولرموزها على استعداد دائم وغير مشروط لتقديم النّصح والتوجيه لكافة النقابيات والنقابيين وكل مناضلي الاتحاد العام التونسي للشغل.
أرجو لكم النجاح في أشغالكم محتوى ومضمونا وخيارات فقدركم في هذه المرحلة الخطيرة من تاريخ اتحادنا التوافق لما لذلك من تأثير على المسارين الاجتماعي والسياسي في البلاد.
المجد للثورة والخلود للشهداء.
عاش الاتحاد العام التونسي للشغل حرّا مستقلا ديمقراطيا مناضلا صامدا إزاء كل محاولات المسّ من مكاسبنا الاجتماعية والثقافية والسياسية والفكرية.
عاش الاتحاد العام التونسي للشغل حرّا وديمقراطيا ومناضلا.
وعاشت تونس عزيزة، منيعة أبد الدّهر